أراد أن يقول للعالم إن عهد الخوارق قد انتهى، وإن العالم بدأ عصراً جديداً من المعرفة والعلم، وإن الإنسان هو سيد قدره على الأرض
والقصة بتمامها أوردها معظم رواة الأخبار من الأئمة البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وتمام الحكاية أن الرسول الكريم حين وصل المدينة رآهم يؤبرون النخل، وتأبير النخل في الواقع أمر غريب وعجيب، كانوا يأخذون من الجذع عوداً فيعقدونه على شكل أسوارة ثم يعلقونه على شجرة أخرى، فتحمل الشجرة ما شاء الله من الثمار، والفكرة اليوم يعرفها خبراء الزراعة على أنها مساعدة لغبار الطلع للوصول من الشجرة الذكر إلى الشجرة الأنثى ليتم التلقيح، ولكنها لم تكن واضحة آنذاك، وحين سألهم النبي عما يفعلونه من أمر التأبير قالوا وجدنا عليه آباءنا ولا ندري كيف يحمل، وقال لهم النبي الكريم ما أظن أن هذا سيغني عنكم شيئاً، وفي رواية أنه قال: لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيراً، وانتقلت كلمة النبي الكريم بين المزارعين من أهل المدينة ومباشرة تركوا ذلك وتواتر بينهم أنها إذن من عادات الجاهلية التي نهى عنها الإسلام
ولكن الثمر لم يحمل في ذلك العام، وترددوا في إخبار النبي بما حدث، ولكن النبي الكريم كان يتابع في الواقع أمر الزراعة في المدينة وسألهم ببراءة: ما الأمر؟ وأين الثمار على أغصان أشجاركم؟ كان الجواب يا رسول الله إنك نهيتنا عن التأبير وقد جاء الحمل شيصاً!!
كانت كارثة على المحاصيل الزراعية ومن الواضح أن ذلك حصل نتيجة ترك التأبير الذي هو عادة الزراع و عرفهم
كان في قدرة النبي الكريم أن يقول للناس صدق الله وكذبت أشجاركم!! كان قادراً أن يقول لهم لا تبالوا بهذا إنه من كيد الشيطان وظنونكم، أو على حد قول مشايخ الصوفية : اللبن أسود!!
ولكن النبي الكريم وقف بكل شجاعة أمام الناس وقال لهم كلمات من ذهب: أيها الناس إذا أمرتكم بالشيء من أمر دينكم فهو مني وأنا قلته وإن أمرتكم بالشيء من أمر دنياكم فإنما أظن ظناً أنتم أعلم بأمور دنياكم
لقد كان إعلاناً شجاعاً عن انتهاء عصر الغيب وابتداء عصر الشهود، وانتهاء عصر الخوارق وبدء عصر العقل، ومن الآن فصاعداً فإن عليكم أن تعتمدوا على الخبرات الموضوعية الأرضية لشأن الحياة و ليس على إلتماس أجوبة السماء لمشاكل الأرض
أخبر القرآن أن بني إسرائيل عاشوا في كنف المعجزات، كان إيمانهم معجزة وطعامهم معجزة وشرابهم معجزة ونجاتهم معجزة وركوبهم البحر معجزة، ورأوا براهين النبوة في يد موسى وفي العصا والثعبان والأفعى والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات حتى صاروا يطلبون من ربهم بقل الأرض وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، ولكنهم على ذلك كله لم تجف أثوابهم من ماء البحر حتى قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة!! قال إنكم قوم تجهلون.
وحين أمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة راحوا يطالبون بكل تقوى وورع: سل ربك: ما هي؟ وما عمرها؟ وما لونها؟ وكانوا ينتظرون في ذلك كله أجوبة من السماء في أسوأ صورة لارتكاس الإنسان إلى الحضيض حتى إنه عاجز عن المبادرة بذبح بقرة إلا بعد أن يحظى ببيانات تفصيلية من السماء في شأن هذه البقرة المسكينة، وبدلاً من أن يشتغل موسى في لقاء ربه بعظائم و أوصافها حتى ذبحوها و ما كادوا أن يفعلون
تحالف الأمم وبناء الحياة وانتقال الحضارات جعل يسأل عن لون البقرة وشكلها
كان أمراً مؤلماً أن يرتكس الإنسان إلى هذا الحد من الغباء والبلاهة والبلادة، وأن تصبح علاقته بمجد السماء ووصاله بالله سبحانه لمجرد بيان أوصاف البقر!.
كان لا بد للنبي الكريم أن يعبر بالعالم من هذه الأوهام الضيقة والاتكالية الغبية إلى نور العقل وإعلان مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وإعلان قاعدة: أنتم أعلم بأمور دنياكم
لو قدر للإنسان أن يبقى بهذه القناعة الغيبية لكان علينا اليوم أن نسأل الأنبياء عن أمور حياتنا كلها و أن نتوقف فيما لا نص فيه
وإذا أردنا صناعة سيارة فإن علينا أن نقول لنبي زماننا: سل ربك ما لونها وما شكلها؟ وكم عدد مقاعدها، وكم طاقة رديديراتها، وكم قوة أحصنتها، وأين يوضع الريدياتير وكيف يستخدم البريميير، وما هي افضل الطبونات وأسطع الأستوبات وأسرع الدواليب، وهل الخير أن يتحرك الكرسي بالهيدروليك أو بالميكانيك، وهل الأبرك أن تفتح النوافذ بالأيدي أم بالدارات..
وإذا أردنا أن نعمر موقعاً على الحاسوب فعلينا أن نسأل نبي زماننا كم ميغا يمنح المسلم، وكم بوصة تكون شاشة اللابتوب وهل يصح فتح الإيميل بالموبايل وكم عدد رامات الحاسوب الشخصي وكم عدد رامات الحاسوب المحمول، وما هي أفضل الماسنجرات وكم سعة الهاردات...
هكذا فعل اليهود مع موسى وهكذا فعلوا أيضاً مع محمد وجاؤوه يسألونه مسائلهم وسألوه عن فتية هلكوا في الدهر فروا من بطش الأباطرة وعن رجل طاف المشرق والمغرب وعن الروح.
كانت ثلاثة أسئلة وضعها اليهود شرطاً لمعرفة صدق هذا النبي وصحة نبوته، وكان من اليسير على الله سبحانه أن ينزل عليهم الأجوبة التي سألوها وتقوم الحجة والبرهان عليهم أمام الناس خاصة أنهم تحدوا بذلك أمام الناس، وبالفعل فقد قبل الرسول التحدي وقال أجيبكم غداً، وراح يسأل ربه إنجاز ذلك، والتمس منه أخبار ما سألوه، وظل يلتمس بيان السماء في ذلك أياماً وأسابيع ولكن السماء لم تسعفه ببيان، وظل حائراً في جوابه للقوم، وفتر عنه الوحي فلم يجد
جواباً يدفع به تحدى القوم وبعد أسابيع نزلت الآيات بينات في هذا الأمر، ولكنها لم تجب عن أسئلة بني إسرائيل وظل الجدل مستمراً من هو ذو القرنين؟ وكم عدد الفتية؟ أما الروح فقد جاء الجواب صريحاً بلا رتوش: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.
أرادت الشريعة أن تقول للناس: انتهى عهد المعرفة الذي يطلب في السماء، وبدأ عصر المعرفة في الأرض، وعلى الإنسان أن يطور معارفه بوسائل العلم وليس برجم الغيب وبخور السواحر وظنون الكهنة، وأن السماء قد ملئت حرساً شديداً وشهباً، وقال الذين كانوا يدعون المعرفة بقرار السماء وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد شهاباً رصداً.
سألوه عن تبع وعن ذي القرنين وعن مآل المحدود في الآخرة وبعد إلحاحهم بالسؤال قال النبي الشجاع بكل صراحة: لا أدري أتبع كان نبياً أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبياً أم لا ، ولا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا! وفي القرآن وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون.
لا أدري!!..... إنه كلام النبوة!! ولا عجب!! فنصف العلم لا أدري، ومن عجز عن لا أدري أصيبت مقاتله، وإذا لم نسلم بأننا لا ندري فإن حركة المعرفة والبحث ستتوقف على الفور أو ستمضى إلى ضلال مبين لا أدري
ليست هذه نقطة ضعف في النبوة أبدا ًإنها من وجهة نظري نقطة قوة، إنه الموقف المناسب تماماً للنبي الذي يقول للعالم: إنما أنا بشر مثلكم، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون، موقف شجاع للنبي الذي قال للعالم: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.
إنه الموقف الصحيح لنبي يقول له الله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و بأمره أن يقول كل يوم رب زدنى علماً
إنه الموقف الصحيح لنبي ينقل لك على صفحات قرآنه خطاب الله: ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى
جاء ليخرج الناس من ضباب الخوارق إلى ضياء العقل، ومن سراب الغيب إلى عالم الشهود، وليقول للإنسان أنت سيد القدر في هذا العالم، حقيقة شرحها فيلسوف الإسلام محمد إقبال في رباعية حكيمة: